النظام العالمي الجديد وتنافس القوى في منطقة الخليج- الصين وروسيا

المؤلف: صدقة يحيى فاضل11.06.2025
النظام العالمي الجديد وتنافس القوى في منطقة الخليج- الصين وروسيا

لا يخفى على أحد الدور المحوري الذي يلعبه النظام العالمي القائم في تشكيل الأحداث والتطورات السياسية بمنطقة معينة. ففي خضم التنافس المحموم بين أقطاب النظام العالمي على المنطقة العربية، غالباً ما تحمل التطورات والتحركات في طياتها بصمات سياسات هذا القطب أو ذاك، وكأن عصر الاستقلال قد ولى وانقضى. لقد تجاوزنا زمن الهيمنة الأمريكية المطلقة، وبات النظام العالمي اليوم يتسم بتعدد الأقطاب، حيث تتنافس كل من أمريكا والصين وروسيا على النفوذ والتأثير. وبإمكاننا استشفاف سياسة كل قطب تجاه المنطقة من خلال تحليل الأهداف والوسائل التي يعتمدها، على غرار ما قمنا به عند دراسة السياسة الأمريكية تجاه المنطقة. وسنتبع النهج ذاته في استقراء سياسات الصين وروسيا، مستخدمين الإطار والمدخل عينه. مع بروز الصين كقوة عظمى صاعدة، وازدياد حاجتها الماسة لاستيراد مصادر الطاقة والمواد الخام، وضمان أسواق واسعة لتسويق منتجاتها المتنوعة، بات من الضروري للصين أن تولي اهتمامًا خاصًا بالعالم العربي، وبشكل أخص منطقة الخليج. وتعي الصين جيدًا الأهمية الاستراتيجية لهذه المنطقة والتنافس الدولي الحاد على بسط النفوذ فيها، لا سيما من جانب القوى الكبرى الأخرى، كأمريكا وبريطانيا وفرنسا وروسيا. ويمكننا تلخيص السياسة الصينية الراهنة تجاه منطقة الخليج، والعالم العربي عمومًا، في هدفين رئيسين، هما: – تعزيز وتثبيت الوجود الصيني في المنطقة: يرتكز جوهر السياسة الصينية تجاه منطقة الخليج العربي على سعي الصين الدؤوب لضمان تدفق وارداتها من النفط والطاقة من دول الخليج بسلاسة وبأقل تكلفة ممكنة، علمًا بأن الصين تستأثر بنحو 18.6% من إجمالي واردات العالم من النفط. وفي الوقت نفسه، تسعى الصين جاهدة لضمان سوق واسع ومربح لتصريف المنتجات الصينية المختلفة. ولا يمكن تحقيق هذا الهدف على المدى الطويل إلا من خلال الوسائل التي تتبعها الصين، والتي تتجلى في دعم العلاقات الصينية مع دول المنطقة وتقويتها. وفيما يلي عرض موجز لهذه الوسائل: - الحد من النفوذ الغربي في المنطقة، وخاصة النفوذ الأمريكي: تُعد هذه المهمة تحديًا كبيرًا نظرًا للتغلغل الغربي العميق في المنطقة وتشابك المصالح الأمريكية والغربية الهائلة فيها. لذا، من المتوقع أن تكون هذه المنطقة ساحة للصراع البارد والساخن بين القوتين العملاقتين، الأمريكية والصينية. ويبدو أن المحصلة النهائية للعبة الصينية الأمريكية في منطقة الخليج غالبًا ما تكون "صفرية"، فما تكسبه الصين في المنطقة، تخسره أمريكا، والعكس صحيح. وثمة احتمال وارد، وإن كان ضعيفًا، بأن يتوصل الطرفان، الصيني والأمريكي، إلى نوع من التفاهم، بحيث يُترك للصين المجال الاقتصادي فحسب، بينما تحتفظ أمريكا بالسيطرة على المجالين السياسي والاستراتيجي. إلا أن هذا الاحتمال يبقى بعيد المنال نظرًا لصعوبة الفصل بين الجوانب الاقتصادية والسياسية. ولتحقيق هذه الأهداف، تعتمد الصين على الوسائل التالية: - تعزيز العلاقات الصينية مع دول المنطقة: يتم ذلك عبر إبرام اتفاقيات التعاون الاستراتيجي بين الصين والعديد من دول المنطقة، بالإضافة إلى تنفيذ مشاريع تنمية البنى التحتية وإقامة المشاريع الضخمة التي تسهم في ازدهار المنطقة وتطورها، ومن أبرزها: السعي الدؤوب لإحياء "طريق الحرير" وغيره من المبادرات. في عام 2013، قام الرئيس الصيني شي جين بينغ، خلال زيارته لدولة كازاخستان، بطرح المبادرة الصينية المعروفة باسم: الحزام الاقتصادي وطريق الحرير البحري للقرن الحادي والعشرين، والتي تستند إلى فكرة طريق الحرير التاريخي الذي ازدهر في القرن التاسع عشر. وتهدف هذه المبادرة الطموحة إلى تحقيق المصالح الاقتصادية والاستراتيجية للصين وشركائها من خلال ربطهم بشبكة مواصلات كبرى ميسرة. وتشمل هذه المبادرة، التي يجري تنفيذها بالفعل على أرض الواقع، دول الخليج العربية. ومن المتوقع أن يكتمل تنفيذها بحلول عام 2049. - الامتناع عن التدخل في الشؤون السياسية الداخلية لدول المنطقة: يشمل ذلك عدم إثارة القضايا الحساسة التي لا ترغب دول المنطقة في فتحها. - السعي المتواصل لزيادة التبادل الاقتصادي والتجاري بين الصين ودول المنطقة: منذ عام 2017، بدأ حجم التجارة الصينية مع العالم العربي يشهد تصاعدًا ملحوظًا، متجاوزًا حجم تجارة الولايات المتحدة مع العالم العربي. إذ بلغ حجم التجارة الصينية مع الدول العربية 171 مليار دولار، منها 101 مليار دولار قيمة صادرات صينية، و70 مليار دولار قيمة واردات من الدول العربية إلى الصين. في المقابل، بلغت صادرات أمريكا إلى الدول العربية في العام نفسه 60.4 مليار دولار. - اتخاذ بعض السياسات الداعمة لبعض القضايا العربية الملحة: وعلى رأسها: تأييد الصين للحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني. ومن الجدير بالذكر أن الصين كانت من أوائل الدول غير العربية التي اعترفت بمنظمة التحرير الفلسطينية. ولم تكتفِ الصين بذلك، بل قدمت الدعم للمنظمة بالسلاح وتدريب عناصرها المقاومة. ولم تقم الصين علاقات دبلوماسية مع إسرائيل إلا في عام 1992، وذلك تحت الضغوط الأمريكية وبعد انعقاد مؤتمر مدريد عام 1991. أما بالنسبة لروسيا، فإنه لولا قوتها العسكرية الهائلة وامتلاكها لترسانة نووية ضخمة، لكانت مجرد دولة نامية. ولكن الإمكانات الكبيرة التي تتمتع بها روسيا تجعلها تنافس بقوة على قمة النظام العالمي، وتسعى جاهدة لتصبح إحدى القوى العظمى التي تشكل نظامًا دوليًا متعدد الأقطاب (أمريكا والصين وروسيا). وتتسم العلاقة بين روسيا والغرب المتنفذ بالصراع والتنافس، أكثر من التعاون والتنسيق. ومن أبرز مظاهر هذا الصراع: العقوبات الاقتصادية الغربية التي فرضت على روسيا على خلفية اجتياحها لأوكرانيا وضم أجزاء منها. وعلى الرغم من ذلك، فإن هناك العديد من المصالح المشتركة التي تجمع بين روسيا والدول الغربية الكبرى، بالإضافة إلى تقارب المواقف تجاه العديد من القضايا ذات الاهتمام المشترك. فلولا قوة روسيا وسلاحها النووي، لما استطاعت أن تنافس على قمة النظام العالمي، لتصبح إحدى القوى العظمى التي تشكل نظامًا دوليًا متعدد الأقطاب (أمريكا والصين وروسيا). وبالإمكان فهم السياسة الخارجية الروسية تجاه منطقة الخليج من خلال تحليل الأهداف والوسائل التي تعتمدها. وسيتضح أن روسيا تعتبر هذه المنطقة ذات أهمية بالغة للعالم ككل، وللقوى الكبرى على وجه الخصوص. وسيتبين أن روسيا حريصة منذ القدم على التواجد في المنطقة وإقامة قواعد عسكرية لها، وهو ما تحقق بالفعل على أرض الواقع. إن مجرد التواجد الصيني في المنطقة بهذا الثقل الاقتصادي يثير التوتر مع بعض القوى الدولية، وخاصة الولايات المتحدة. ومن المتوقع أن يتفاقم هذا التوتر كلما تعززت العلاقات الصينية مع دول المنطقة وتوطد نفوذها. الأمر الذي قد يؤدي إلى نشوء بعض الاحتمالات الصراعية الجذرية في مسار السياسة الدولية في المنطقة العربية. ومن بين هذه الاحتمالات: قيام تحالف صيني روسي يقلب موازين القوى في العالم رأسًا على عقب. وعلى الرغم من ذلك، فإن سعي الصين وروسيا لتوثيق علاقاتهما مع دول المنطقة العربية قد يدفعهما إلى الوقوف إلى جانب القضايا العربية العادلة. ولا شك أن المواطن العربي يتمنى خدمة مصالح بلاده وأمته الحقيقية، ورعاية توجهها العقائدي، ويتطلع إلى تحقيق التمكين والنصر لبلاده. ومما يثير الأسف والقلق لدى العرب أن يروا بأن نتيجة هذا الصراع حتى الآن (نوفمبر 2024) تميل لصالح أعداء الأمة. فما زال من يقاوم ضعيفًا ومتخبطًا ومحاربًا، بينما التحالف المضاد أقوى ماديًا وبكثير على الساحتين الإقليمية والعالمية، بل ومعظم الساحات المحلية في أغلب بلاد المنطقة، وليس في كلها. ولكن هذه الحرب (المكونة من عدة معارك) لم تحسم نهائيًا بعد... فما زال هناك بصيص أمل خافت أمام المقاومين للظلم والهيمنة البغيضة.

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة